محاضرة : ماذا ينتظر جمهور المصلين من الخطيب ؟

 _la_mosquee_el_youssoufi_a_casablanca

سم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله و سلم و بارك على سيدنا و نبينا و مولانا محمد المصطفى الأمين و على آله وصحابته و أمته أجمعين

أيها الحضور الكريم السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته و بعد، إنه لشرف كبير أن يتسنى لي في هذا اليوم المبارك أن أوجه خطابي في هذا المحفل الجليل و أنا أمامي ثلة من الخطباء الأفاضل و العلماء الأماثل، و هو في الحقيقة خطاب أقصد به نفسي و كأنني أفكر بصوت مسموع أو أحاور نفسي في هذا الموضوع، فالتوجيهات الواردة، و النصائح الوافدة أنا المقصود بها قبل أي أحد، على نفسي أبكي لست أبكي لغيرها، فلا يجدن علي من الحضور الكريم أحد إن تضمن كلامي نوعا من النقد الصريح، فليس المقصود منه الطعن أبدا و لا التجريح، و لكن كما يقال إنما هي نفثة مصدور و لابد للمصدور أن يتنفس . فأنا مجرد أخ خطيب بين إخوته الخطباء، يطارحهم شجاه و يبثهم نجواه         و يصارحهم شكواه، و إلا فليس إلا إلى الله المشتكى، و لا على غيره الاعتماد و الإتكا      و قد اخترت أن أعنون مداخلتي بهذا العنوان:

 

[أخي الخطيب:  “هذا ماذا ينتظره منك جمهور المصلين ” ]

 

    و المداخلة تشتمل على مقدمة ثم قسمين من الأمور، المقدمة في مظاهر أهمية خطبة الجمعة و خطورة وظيفتها. و القسمان: الأول في أمور لها علاقة بشخصية الخطيب        و الثاني في أمور لها علاقة ببعض مهاراته.

    و الهدف المنشود من المداخلة المساهمة بما يرجى منه المزيد من التوعية بضرورة النهوض بمستوى الخطيب و خطبة الجمعة حتى تتحقق  الغايات المقصودة و الثمار المنتظرة و التي  على رأسها تحقيق ارتياح المصلين إلى خطبائهم و انتفاعهم  النفع العميم بخطبهم. فبالله التوفيق و الهداية إلى سواء الطريق.

 

المقدمة: مظاهر أهمية خطبة الجمعة و خطورة وظيفتها.

   في البداية، يكفي للتدليل على أهمية خطبة الجمعة أن تسأل نفسك أخي الخطيب هذا السؤال:من دعا الناس إلى جامعك ؟ ليس من جواب سوى أنه الله تعالى هو الذي دعاهم قال تعالى :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ      و ذروا البيع﴾(سورة الجمعة الآية: 5) أفلا يكفيك إذا علمت أن الله تعالى بنفسه و جلالة قدسه هو الذي استدعى المؤمنين ليحضروا إلى خطبتك و ينصتوا إلى حديثك، ألا يكفيك هذا لتدرك مقدار أهمية خطبة الجمعة هذا أولا.

ثانيا: من الذي أمرهم بالإنصات و الاستماع ، ثم من الذي نهى عن الكلام أثناء خطبتك و لو بقول المعروف، إنه الله  تعالى و رسوله صلى الله عليه و سلم، أما الله تعالى فقال:     “ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 204 ) ” قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ بَقِيَّةَ : سَمِعْتُ ثَابِتَ بْنَ عَجْلَانَ يَقُولُ : سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ) قَالَ : الْإِنْصَاتُ يَوْمَ الْأَضْحَى ، وَيَوْمَ الْفِطْرِ ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَفِيمَا يَجْهَرُ بِهِ الْإِمَامُ مِنَ الصَّلَاةِ.(تفسير ابن كثير سورة الأعراف) و أما الرسول عليه الصلاة         و السلام، ففي مساجدنا  في كل جمعة عندما تستوي جالسا على المنبر يتم تذكير المصلين بالحديث الذي رواه إمامنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: “إذا قلت لصاحبك أنصت و الإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت” و في حديث آخر “ومن لغا فلا جمعة له” قال الترمذي حديث حسن صحيح.

2

  ثالثا: رسول الله صلى الله عليه و سلم يحض على التبكير إلى الجمعة ويأمر بالتهيؤ النفسي لها بالتطيب والاغتسال والسواك فقد قال:”مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ في الساعة الأولى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ“رواه الترمذي في السنن عن أبي هريرة

رابعا:- خطبة الجمعة لها شأن عظيم عند الله -عز وجل- فهي ذكر لله كما سماها الله في كتابه ، وهي شعيرة من شعائر الدين ، تشهدها الملائكة ، قال -صلى الله عليه وسلم- : ( إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون من جاء من الناس على قدر منازلهم ، فرجل قدم جزوراً ، ورجل قدم بقرة ، ورجل قدم شاة ، ورجل قدم دجاجة ، ورجل قدم عصفورا ، ورجل قدم بيضة ، فإذا أذَّن المؤذن ، وجلس الإمام على المنبر طووا الصحف ودخلوا المسجد يستمعون الذكر ) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
إن هذا الحديث يلقي ظلالاًً من الهيبة والجلال على هذه الخطبة ، وفي الوقت نفسه يعطي الخطيب شعوراً بأهمية الكلمة التي يقولها من على المنبر إنها ذِكر ، فعلاوة على كل ما فيها من قيمة دعوية، فإن الملائكة الكرام يسمعونها.

فليت الذين يوظفون خطبهم لتحقيق مصالح فلان أو فلان، و ليت الذين يرتجلونها فيذهب بهم الحديث فيها كل مذهب دون ضابط، و ليت الذين يتخذونها مطية للثأر و تصفية حساباتهم مع شخص أو جهة أو مذهب، و ليت الذين لايتورعون عن إسماع المصلين ما لا أصل صحيح له ، وليت الذين يستهينون بقدرها فيحولونها بلغتهم الدارجية العامية إلى شبه حلقة من حلقات الفلكلور الشعبي بجامع الفناء، ليت كل هؤلاء و أمثالهم ممن يتنافى سلوكهم مع قدسية الخطبة  و أهدافها يفقهون هذا الحديث  و يعملون حسابا لخطورته.

خامسا- إنها هي المجال الوحيد المتاح للدعاة والذي من خلاله يتحدثون مع الجميع.     لشهود المسلمين جميعهم لها، فالمسلمون على اختلاف طبقاتهم، ومستوياتهم الاجتماعية    و التعليمية ، يحضرون هذه الصلاة ويشهدونها . فيحضرها الأمير و المأمور و العالم      و طالب العلم، والمتعلم والجاهل، و المثقف الواسع الثقافة و المثقف البسيط الثقافة ،        و الموظف السامي و الموظف العادي و أصحاب الحرف و الصنائع، ويحضرها الكبير والصغير، هذا من جانب، ومن جانب آخر فحضورها ليس مقصوراً على الأخيار المواظبين على صلاة الجماعة وحدهم فكثير ممن لا يشهد صلاة الجماعة يحضر الجمعة ، وهذا يتيح للخطيب أن يخاطب الجميع وأن يتحدث للكثير ممن لا يحضرون المحاضرات والندوات، ودروس المساجد .و هذا يعني أن عليه يراعي في خطبته اختلاف الفئات التي تستمع إليه فيسعى إلى الرقي بهم  عملا بقوله تعالى “تعالوا” لا أن ينحدر عن مستواه إليهم.

سادسا–  إن تكررها كل أسبوع .  يجعل المصلي يستمع لـ (52) خطبة في العام الواحد ، وحين يعتني بها الخطيب ويرتب موضوعاتها فإنه يقدم للمستمع مادة متكاملة . إنها تمثل دورة مكثفة مستمرة  في التكوين .

سابعا–  قيمتها المعنوية عند الناس وتأثيرها ، فقد أكدت بعض الدراسات الميدانية  أن خطبة الجمعة لها تأثيرها على المصلين ، خصوصا حين يجدون الخطيب المؤثر .فكم أثـْرَت معلوماتِهم، و عدلت من سلوكهم، و أصلحت من اعتقاداتهم، و قاومت من جهالاتهم         و فندت من أباطيلهم.

ثامنا ـ  حضورها يزيد ولا ينقص . فالمصلون لا يخرج منهم أحد قبل انتهاء الخطبة ، إنما يتوافدون، بخلاف المحاضرة والدرس، فقد يخرج بعضهم قبل اكتمال الموضوع . ومع

إقبال الناس على الخير في هذه الفترة ، يتوافد الكثير من المسلمين إلى الجمعة ممن كانوا لا

3

يعرفونها قبل ذلك .

تاسعا– ثباتها في كافة الأحوال، فهي مستمرة في السلم والحرب، وفي القحط والجدب ، وفي سائر الظروف . لذلك كله هي جديرة  بالعناية ، وشعورنا بأهميتها ، يدفعنا إلى الحرص على أن يصعد منبرها الدعاة الصادقون، وطلبة العلم الواعون أي أصحاب الكفاءات.

فالخطباء أنفسهم أمام إدراكهم لخطورة الرسالة التي يحملون وقيمتها وأهميتها،  أليس من الواجب عليهم أن يولوا خطبة الجمعة ما تستحق من العناية والدراسة لاستثمارها ، وأساليب تطويرها ؟  أليس عليهم أن يجتهدوا للرفع من مستواهم ؟  فمهمتهم في الأصل هي وظيفة الأنبياء والمرسلين.و هي تشريف يستحق كل ما سنذكره  بعد من التكاليف.

 

 أولا: أمور لها علاقة بشخصيتك

1ـ أخي الخطيب ينتظر منك جمهور المصلين أن تكون عالما بوظيفتك:

عندما تتصدى لوعظ الناس والتحدث إليهم في كل أسبوع، إذ يأتون ليستمعوا إليك ويلتزمون الصمت إذا تَحَدَّثَّ إليهم، وينضبطون بحيث يصبحون هدفًا لكلامك وموعظتك، فعليك أن تجعل نصب عينيك الوظيفة التي من أجلها اعتليت المنبر واشرأبت إليك أعناق المصلين:

أ – اذكر أن من وظيفتك إرشاد العامة إلى معرفة الله وما يجب أن يثبت له من الصفات العلية وما يستحيل عليه، وما يجوز في حقه تعالى، وما للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام من مثل هذا.

ب– اذكر أن من وظيفتك تعليمهم أركان دينهم وبيان آدابها ومنافعها العائدة عليهم في الدنيا والآخرة.

ج– اذكر أن من وظيفتك دعوتهم إلى الخير وصرفهم عن الشر وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وحثهم على التمسك بالدين وآدابه.

د – اذكر أن من وظيفتك حضهم على التعاون في المشروعات المفيدة، وتربية الأولاد والدخول على كل أمر من بابه، وحفظ الأمانة واستشعار نعمة الأخوة الإسلامية.

هـ – اذكر أن من وظيفتك تطهير قلوبهم من الأوهام الفاسدة التي قد تجرهم إلى اعتقادات باطلة، حتى يخضعوا لخالقهم ومولاهم تعالى

و – اذكر أن من وظيفتك ربط المصلين بقضايا الأمة الإسلاميةـ إذ ليس من المسلمين من لم يهتم بأمورهم ـ، وحُثهم على أن يكونوا مساهمين في نهضتها ورقيها وأن يتفاعلوا بطريقة إيجابية مع الأحداث التي تمر بهم.

 

2ـ  أخي الخطيب ينتظر جمهور المصلين أن تكون لوقفتك حالَ الخطبة أثرا في نفوسهم: لذا ينبغي أن تهتم بوقفتك أثناء الخطبة، فأنت تقف على مكان مرتفع ليتمكن الجمهور المستمع من رؤيتك ولتتمكن أنت من رؤية الناس؛ لما للرؤية المتبادلة من أهمية في إيجاد التفاعل بين المتكلم والسامع من خلال حاستي السمع والبصر.

فكن معتدلاً في وقفتك مستشرفًا لجميع المصلين، والتفِت حال خطبتك يمنة ويسرة لتتمكن من استقبال الجمهور بوجهك من مختلف الجهات، ويستطيع الحاضرون جميعًا رؤيتك والنظر إليك، ولا تبدأ بالحديث إلا بعد أن تستقر في وقفتك، وتهدأَ نفَسك وتسكن جوارحك، ويسود الهدوء المكان لتتهيأ نفوس الحاضرين لسماع كلامك.

 

4

3ـ أخي الخطيب، ينتظر جمهور المصلين منك أن تكوننظيفًا في جسمك وأنيقًا في مظهرك، يُسرون برؤيتك، وتنشرح صدورهم برائحة طيبة فواحة زكية  منك، فما أظنه يخفى عليك أن لحسن مظهر الخطيب وجمال هندامه وقعًا في نفوس السامعين وتأثيرًا في ذواتهم، فتلك هي طبيعة النفس البشرية التي تميل إلى المألوف، وتأنس بالكمال والاعتدال.

ووقار اللبس وجمال الهندام شيء نادى به ديننا الحنيف لأنه من مقتضى الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم عموما فضلا عن الخطيب، فاعتن أخي الخطيب  بهندامك غير متفاخر أو متباهٍ بلبسك وجماله، فأنت لا تبتغي الشهرة و الخيلاء، كيف و قد قال عليه الصلاة       و السلام: «من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة»[سنن أبي داود (4031) وسنن ابن ماجة (3606) ومسند أحمد (5664)، والسنن الكبرى للنسائي (9487)، قال في “كشف الخفاء” (2/362) إسناده حسن].

فأنت تمتثل قول الله تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف : 31] وغاية المقصود بحسن الهندام والنظافة أن تهتم بهيئتك، وتناسق لباسك، فلا تخالف مألوف الناس بملبوسك ( أقصد المألوف من لباس علماء بلدنا ـ المغرب ـ اللباس الذي يؤكد هويتك المغربية و اعتزازك بأصالتك و انتمائك : الفرجية و الجلباب و العمامة و البرنس أي السلهام) بحيث تستثير إعجابهم، ولا ترتدي من الثياب ما يُزري بك فقد وجه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى وقار المظهر في أحاديث ومواطن كثيرة؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: «أحسنوا لباسكم وأصلحوا رحالكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس»[سنن أبي داود (4091) والمستدرك للحاكم (7371) والمعجم الكبير للطبراني (5486)، وقوله صلى الله عليه وسلم أيضًا: «إن الله جميل يحب الجمال»[صحيح مسلم (275)]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده»[سنن الترمذي (2819)، وقال حديث حسن،]. وقال صلى الله عليه وسلم يومًا وهو على المنبر يوم الجمعة: «ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته»[سنن أبي داود (1080) وسنن ابن ماجه (1095) وصحيح ابن حبان (2777)، وحسنه النووي في خلاصة الأحكام (2/781)]،.

ولقد ضرب صلى الله عليه وسلم لأمته المثل العملي للاعتناء بمظهره فكان ينظر في المرآة وهو مُحرم [السنن الكبرى للبيهقي (9412) عن ابن عمر رضي الله عنهما]، وكان للرسول صلى الله عليه وسلم بُردة جميلة يلبسها للجمعة والأعياد) (وهذا إمامنا مالك  كان إذا جاءه الناس لطلب الحديث اغتسل وتطيب ولبس ثيابًا جددًا ووضع رداءه على رأسه، ثم يجلس على منصة ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ، قال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ومن عنايته صلى الله عليه و سلم بحسن المظهر أمور، منها: (تسريح لحيته وتمشيط شعره، واستعمال الطيب في بدنه وثوبه إن وجد،.ومن ذلك أيضًا أنه كان صلى الله عليه    و سلم يلبس البياض من الثياب و يرغب في ذلك  قال صلى الله عليه وسلم: «أحسن ما زرتم به الله عز وجل في قبوركم ومساجدكم البياض»[سنن ابن ماجه (3568) ، وفيه ضعف، انظر فتح الباري لابن رجب (4/66)].

فاحذر أخي الخطيب أن يضطرب مظهرك، أوتتبذل  ثيابك، أو يختلط هندامك، فيكون ذلك سببًا في نفور نفوس الناس منك، وإدبارهم عن سماعك واستهانتهم بك، كما حدث لإياس بن معاوية المزني، عندما أتى حلقة في مسجد دمشق فاستولى على المجلس ورأوه أحمر دميمًا رث الهيئة، قشيفًا، فاستهانوا به، فلما عرفوه اعتذروا إليه وقالوا: الذنب مقسوم بيننا وبينك، أتيتنا في زي مسكين تكلمنا بكلام الملوك).

 

4ـ أخي الخطيب، ينتظر جمهور المصلين منك أن تكون قوي الشخصية جليلا مهيبا:  فبذلك تقدر أن تستولي على قلوب السامعين وتمتلكَ أحاسيسهم .فالجمهور إنما يوقرون و يحترمون من له هيبة، فلا يجترئون إلا على سفيه أو أحمق.ومما يُعينك على ذلك، أن تكون جادًا بعيدًا عن المزاح والعبث و الثرثرة، وإلا سقطت من أعين الناس وزالت عنك كل هالة وهيبة كانتا لك في نفوس الناس قبل أن يعلموا حقيقتك، و هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ خيرُ قدوة وأسوة في ميدان قوة الشخصية ـ قال سيدنا علي رضي الله عنه في وصفه: (من رآه بديهة هابه، ومن عاشره خلطة أحبه).فالمهابة وقوة الشخصية منحة من الله تعالى بوسعنا امتلاكها إذا صلحت منا السرائر).

5

ثانيا: أمور لها علاقة بمهاراتك أخي  الخطيب

أخي الخطيب ينتظر منك جمهور المصلين أن تحسن الإلقاء:

وحسن الإلقاء يُحْكِمُه أربعة أمور: 1ـ جهارة الصوت وحُسنُه 2ـ اتزان النبرات. 3ـ النطق

الجيد 4ـ الوقوف عند الموقف المناسب.

فاحرص أخي الخطيب على التحقق بهذه الصفة و بالأمور الأربعة التي تُحكِمُها حتى تتمكن من شد السامعين واستثارة أحاسيسهم، وتقدر على التأثير فيهم (فلا بد من أن يَسلم الخطيب من عيوب النطق المعروفة، فلا يكون ألثغ ولا ألدغ، وأن يكون فصيح اللسان جهوري الصوت.. الخ) (وإن وجد في منطق ولسان الخطيب عيب مما يعيق فصاحة اللسان وحسن الإلقاء فلا بد له من السعي في علاجه والتغلب عليه، فقد يكون ذلك بسبب عارضٍ جسماني كفقد الأسنان أو بسبب بعض الحميات التي يكون لها تأثير على اللسان.. وأما اللثغة الشديدة فإنه يمكن علاجها بإذن الله وذلك بالأخذ بالأسباب مع الإرادة القوية التي لها أكبر الأثر في التغلب على ذلك العائق).

   ويمكن اكتساب جهارة الصوت بواسطة تدريب الحنجرة وترويضها على اكتساب صوت مرتفع، ويتأتى ذلك عندما يخلو الواحد بنفسه في مكان، ثم يحاول أن يصرخ ويرفع صوته كأنه يخطب في الناس.

   وأما اتزان النبرات فهو أن يجعل الخطيب صوته مناسبًا للمكان والسامعين، فيُرسلـَه إرسالاً متوازنًا بحيث يقوى في موطن القوة، ويرفِق في موطن الرفق، مما يؤدي إلى تجديد الانتباه وإيقاظ الأذهان، وتجديد نشاط السامع في متابعته للخطبة، ولقد كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب يستطيع السامع أن يَعُد كلماته ويُحصيَها.

فإياك و الإسراع فإنه صفة ذميمة تُفـَوِّتُ على السامع كثيرًا من النفع، وليس ذمُّ الإسراع في الكلام يعني مدحَ الإبطاء فيه، لأن الإبطاء إذا خرج عن صورته الطبيعية صار ضربًا من التمطيط الذي يؤدي إلى استرخاء أسماعهم وشرود أذهانهم وانعزالهم عن خطيبهم.

وهنا ملاحظة ينبغي عدم إغفالها، وهي حول ما يتخذه بعض الخطباء من خطة في إلقاء الكلام؛ بأن يرفع صوته ثم يخفضه تدريجيًا، ثم يعود فيرفعه من جديد ليخفضه تدريجيًا مرة أخرى، ويكون هذا دأبُه إلى نهاية خطبته، أو أنه يبدأ خطبته هادئًا، ثم يرفع صوته تدريجيًا  وما يزال يرفعه ويزيد في حماسته، ولا يخفضه حتى ينتهي من خطبته فيتسبب هذا في تهدج صوته، وإرهاق حنجرته. وتجد فريقًا آخرَ من الخطباء يجعل أحدهم صوته ينطلق على وتيرة واحدة؛ إما أن يبدأ هادئًا، ويبقى هكذا إلى نهاية خطبته، أو يبدأ متحمسًا ويبقى هكذا إلى اختتام كلامه، فتكون خطبته عبارة عن زعيق و صياح، فينجم عن ذلك تطرق الملل والسأم إلى نفوس السامعين الذين يتطلب انتباهُهُم ونشاطهم من الخطيب أن يُلونَ صوتَه، ويتزن في نبراته بما يقتضيه المكان والجمهور و الكلام.

   وأما النطق الجيد، فهو بإخراج حروف الكلمة من مخارجها الطبيعية فالإخلال بالحرف يترتب عنه إخلال بالمعنى، كأن ينطق الثاء تاءا، أو الغين خاءً، أو الظاء ضادا،أو التاء طاءا.

ومن مظاهر حسن الإلقاء أن تُصَوِّرَ المعانيَ بنُطقك، بأن تلفِظ الاستفهامَ بصورة تدل على الاستفهام، وأن تلفظ التعجب بصورة تدل على التعجب، ونحو ذلك.

6

ومن مظاهره أيضًا، أن تتجنب الأخطاء اللغوية والنحوية، إذ من القبيح أن يقع الخطيب في الأخطاء النحوية أثناء كلامه، ولم ينج من هذه الآفة إلا القليل من الخطباء الذين عُنُوا بلسانهم فصقلوه وقوَّموه بكثرة قراءتهم للقرآن الكريم وبيان النبوة وكلام العرب الأقحاح.

+ (  ثم لابد للخطيب ليكون حسن الإلقاء أن يكثر من (الارتياض والممارسة لكي يُنميَ مواهبه، وقد كان شيشرون أخطب خطباء الرومان يتمرن على إلقاء خطبته قبل أن يقدم على إلقائها. ومن الرياضة أن يتحدث بجيد الكلام أو يكتبه كثيرًا، وأن يكون في مرانه الخطابي محاكيًا البلغاء في أساليبهم، أو مقتبسًا منهم، أو سائرًا في مثل دربهم. ومن الرياضة أيضًا أن يعود نفسه إخراج الحروف من مخارجها، وان يقرأ كل ما يستحسنه بصوت مرتفع).

 

أخي الخطيب ينتظر منك جمهور المصلين أيضا إذا أشرت أن تحسن الإشارة، فالإشارة منك حال الخطبة شيء لا غنى عنه ، وقد تكون بتحريك يدك، أو تحريك رأسك، أو منكبك، أو تبدُوَ الحركة في تغير ملامح وجهك ونظرات عينيك، كأن تقطب جبينك أو تنفرجَ أساريرُك، والإشارة لها تأثير كبير في تنبيه السامع وإيضاح المعنى، لذلك قالوا: استخدام الإشارة يزيد في إيضاح العبارة. لكن ينبغي أن تصون يديك عن العبث، وعينيك عن تفريق النظر بلا حاجة، والتفت إلى الحاضرين التفاتًا قصدًا بحسب الحاجة للخطاب، فإنه إذا كثرت حركاتك وإشاراتك وزادت عن الحد المطلوب أخرجتك عن حد الوقار والهيبة، وربما أدت إلى استثارة ضحك السامعين، وهذا مالا يليق بجلال هذا المقام.

+( وعليك أخي الخطيب مراعاة عدة أمور في استخدامك الإشارة حال الخطبة، ومنها:

ـ أن تكون ملائمة للمعنى المراد من العبارة.

ـ أن تسبق القول المقصود له، لأنها تعتبر موطئة له منبهة إليه.

ـ أن تكون متزنة متناسقة تُعطي مدلولها بكل وضوح ورشاقة بعيدة عن العنف المفرط والمبالغة الشنيعة)

أخي الخطيب ينتظر منك جمهور المصلين أن تكون سريع البديهةقادرا على امتلاك المواقف المفاجئة، والسيطرة عليها فذلك من مقومات الخطيب المهمة، وحضور البديهة يأتي من شدة الذكاء، ودقة الملاحظة، وحسن معرفة أحوال الناس وطباعهم، و يأتي من شجاعة الخطيب وفهمه لدعوته ورسوخ موقفه ووضوح غايته وتمكن علمه، فكثيرًا ما يفاجأ الخطيب بما لم يتوقع مما يسوؤه أو يفرحه فكيف يتصرف؟ وكيف يكون موقفه وإجابته؟ وقد يحدد ذلك نجاحَه أو إخفاقـَه، أو تَحَوُّل القلوب إليه أو انصرافِها عنه، فقد يلقى الخطيب خطبته فيعقب عليه معقب أو يعترض معترض، فإذا لم تُقـَدِّم البديهة الحاضرة ما يجبر الخلل أو يُقنع المعقب أو المعترض انفرط عِقـْدُ الخطيب، واعترته الحيرة، وتفرق عنه الناس وانصرف من حوله الجمهور).

وينبغي في حالة حدوث أي اعتراض أو قطع للخطبة أو نحو ذلك، كأن يسأله سائل وهو يخطب، ولم يقدر الإجابة على السؤال، ينبغي له ألا يتحرج ويُظهر ارتباكه بل عليه أن يحكم الموقف بالتصرف الحسن، كأن يقول للسائل: ذكرني بعد الخطبة. و كذلك إذا وجد نفسه غير قادر على الرد على الاعتراض فمن الخير له أن يصم أذنيه ويتابع إلقاء موضوعه غير مكترث بكلام المعترض).

ونذكر هنا بعض المواقف التي ظهرت فيها سرعة البديهة وحسن الرد والتصرف من خطباءَ تعرضوا لسؤال أو اعتراض:

(يُذكر أن عثمان بن عفان رضي الله عنه صعد المنبر فشردت منه الكلمات ففتح الله عليه بما هو أحسن من الخطبة حيث قال: أيها الناس أنتم إلى إمام فـَعَّال أحوجَ منكم إلى إمام قوَّال) (وكان أحدُ الخطباء يخطب في جمهور من الناس، فاعترض له أحدهم قائلاً: هذا غير صحيح. فأجاب الخطيب بكل بساطة: “هذا رأيك”، ثم تابع خطبته دونما انقطاع أو قلق) (وصعد أحد الخلفاء المنبر ليخطب فسقطت ذبابة على وجهه فذبها عنه، فعادت فذبها ثانية، فعادت وتكرر ذلك. فضاقت نفسه واضطرب تفكيره فتخلص من موقفه بأن قال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } [الحج : 73]، ثم نزل فاستحسن الناس منه هذا التخلص).(يضاف اليها موقف ابن الجوزي من سؤال الشيعة  و السنة مَن أفضل أبو بكر أم علي أو من أولى بالخلافة؟ فأجاب من كانت بنتُه تحتَه)( ومن الطرائف الحديثة سئل إمام عن مصافحته بعد الصلاة هل تجوز أم بدعة لا تجوز؟ فأجاب إذا كنت ستضع في يد الإمام هدية مالية فلا بأس من المصافحة)

7

أخي الخطيب ينتظر منك جمهور المصلين أن تكون متحليا بالحماسة وقوة العاطفة ، فأما الحماسة فلأنها عنصر فعال في الخطبة ينبغي ألا تخلو منه، لأنه الروح التي تسري في أوصال كلماتها، فتنساب إلى أعماق نفوس السامعين، وتستقر في سويداء قلوبهم) (والعواطف والحماسة يجب أن تنصب عند الخطيب في عبارات وأساليب تلهب الحس وتوقظ النفس، وتثير الحمية وتحفز الهمة، أما الكلمات الميتة والألفاظ المتهالكة فلا تزيد الخامل إلا كسلا و الغافل إلا ضياعًا). فلا بد أن تكون حماسة الخطيب أقوى من حماسة سامعيه ليُفيض عليهم)، ( و أما العاطفة فتتجلى في حرص الداعية الخطيب على المدعو، يظهر ذلك في حَدَبـِه وشعوره ورغبته في نصحه ونفعه حتى يكاد يتمزق أسفًا عليه، ويتفطر حرصًا على هدايته وسلامته، نرى ذلك في حرصه صلى الله عليه وسلم وحدبه على هداية أمته في قوله تعالى: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمُ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } [الكهف : 6]، { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [فاطر : 8].

وهكذا يجب أن يكون الداعية لأن الحماسة وقوة العاطفة لها أثر كبير وثمرات كثيرة أعظمها : تجديد نشاط السامعين، و تنبيه أذهانهم، حيث يتجلى ذلك في هيئة جلوسهم وحالة استماعهم، فترى أبصارهم شاخصة إليه مُحَدِّقة فيه، وهم مأخوذون بما يقول، منصرفون إليه بملء القلوب والعقول، و بهذا يصل الخطيب إلى هدفه بأقصر الطرق. إلا أنه ينبغي أن نعلم أن حماسة الخطيب في خطبته يجب أن تكون متوازنة مناسبة للأفكار التي يعرضها، والمعاني التي يسوقها وفق ما تستدعيه الفكرة ويتطلبه المعنى؛ وإلا كانت ضربًا من الانفعال الممجوج ولم تؤت ثمارها في نفوس السامعين، بقدر ما تضعف الخطيب وترهق حنجرته، وتضجر سامعه).

أخي الخطيب ينتظر منك جمهور المصلين أن تكون متحليا بالجرأة والشجاعة  

فتكون جريئًا شجاعًا في مواقفك وفي عرضك لقضايا الناس ومشكلات الأمة وذكر العلاج المناسب لها، على أنه ينبغي أن تكون جريئًا في غير تهور وشجاعًا في غير حمق.

أخي الخطيب ينتظر منك جمهور المصلين أمورا أخرى لها علاقة بمؤهلاتك منها:  العلم بأحكام الخطبة/  التمكن من الأساس اللغوي وفصاحة اللسان / دوام التزود وسعة الإطلاع، وأمورا لها علاقة بسلوكك: (عدالة الخطيب/ حسن السيرة / حسن الخلق / الالتزام بما يعظ به الناس)  و المقام لا يتسع لذكرها فلعل المتدخلين بعدي يتطرقون إليها لتكتمل الصورة.

    وفقنا الله جميعا لما يحبه و يرضاه، و هدانا لخير القول و العمل، ورزقنا الإقبال منه تعالى و القبول. و شكرا على حسن إصغائكم و ستر الله عيوبنا و عيوبكم في الدارين        و رمضان مبارك علينا و عليكم و على أمير المؤمنين و سائر الأمة الإسلامية.

و صلى الله على سيدنا محمد و آله و صحبه و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته.

 

وكتبه عبد ربه الراجي غفران ذنبه و ستر عيبه سعيد بن عبد الواحد منقار بنيس

خطيب مسجد الرضوان بلافليت عين البرجة

و أستاذ العلوم الشرعية بالمدرسة القرآنية التابعة لمسجد الحسن الثاني

و المفتش المنسق الجهوي للتعليم الثانوي لمادة التربية الإسلامية بآكاديمية جهة الدارالبيضاء الكبرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق