الطوائف الدينية في المغرب … طائفة أولاد سيدي حماد وموسى

فرقة بهلوانية

يورد الإثنوغرافي الفرنسي أرسين رو رواية للحوادث الانقلابية التي طرأت على حياة سيدي حماد وموسى (1460-1563) وجعلته يتحوّل من شاب سوسي يعيش حياة عادية في بلاد تازروالت إلى سائح يلبس الخرقة ويضرب في بقاع الدنيا لسنوات طوال خائضا في التجارب الصوفية الخارقة ومُقتاتا من خشاش الأرض.. وقد أخذ الباحث هذه الرواية سنة 1951 عن شيخ من قبيلة شتوكة اسمه سي إبراهيم الكونكي وفيها يحدثنا سيدي حماد وموسى بلسانه الأمازيغي عن تفاصيل ما حدث، وفيما يلي بقية الحكاية:


بهلوانيو سيدي حماد وموسى

(عن أنطون إشير: البهلوانيون المغاربة
في السيركات الألمانية.
ميونيخ.1997)

يُعرفون عبر العالم باسم أولاد سيدي حماد وموسى وتجدهم ضمن برامج أهم السيركات العالمية، وفي المغرب يمكن مصادفة مجموعاتهم البهلوانية في الأسواق والساحات العمومية حيث يقدمون عروضهم مقابل إكراميات الجمهور.
يدّعون انتسابهم إلى الولي الصالح سيدي حماد وموسى (1460-1563) صاحب المذهب الصوفي المعروف (باسكون. 1984 ولانغ 1992)، ويرى البعض أن هذا الانتساب هو مجرد ادعاء الغرض منه كسب المال (واين 1997)..لكن معظم المغاربة لا ينازعون في أن هذه الطائفة من البهلوانيين قد أخذت البركة فعلا عن هذا الولي ونالت رضاه بحيث صار أعضاؤها يتقنون فن القفز والرياضة وخاصة بناء “الهرم البشري” الذي اشتهروا به.
ويبدو أن أول مرة ظهر فيها هؤلاء البهلوانيون المغاربة كانت على خشبة السيرك الألماني سنة 1852 عندما استقبل أرنست رينز، ملِك فن السيرك في ألمانيا، فريقا منهم مكوّنا من 12 لاعبا وأطلق عليهم اسم: “الطوارق: عجائب الصحراء”..وقد كان يرأسهم ويدير عروضهم واحد منهم اسمه مصطفى بن محمد. وسوف يصيرون، بعد وقت وجيز، من أهم الدعائم الكلاسيكية للسيرك الألماني.
لكن بعض الوثائق تشير إلى وجود بهلواني مغربي سابق من مدينة طنجة سافر إلى أمريكا الشمالية حوالي 1820 وقام بتشكيل فريق من أولاد حماد وموسى أسماه “البدو العرب” وكان يعرض معه في سنة 1838 لوحة “الهرم البشري” الذي يقف أعضاؤه على أكتاف بعضهم البعض.
وفي أواخر القرن التاسع عشر سوف يكتشف العالمان اللغويان الألمانيان هانس شتوم وألبير سوسان وجود هذه الفرقة من البهلوانيين المغاربة التي كانت تقوم بجولة في برلين ولايبزغ وفي عموم أوروبا ممّا سيحفزهما على تطوير اهتمامهما بدراسة اللهجات العربية والبربرية بالمغرب. وهما يشيران إلى أهمية طائفة أولاد حماد وموسى المشكّلة أساسا من بربر مغاربة ويتحدث بعضهم اللغة الألمانية. ونحن نعرف بأن هذين العالمين الألمانيين كانا من أوائل الإثنوغرافيين الذين زاروا المغرب وأقاموا بحوثا حول لهجاته وتراثه الشعري والموسيقى..فقد أنجز هانس شتوم أطروحته حول الشعر والغناء عند شلوح منطقة تازروالت ونشرها سنة 1895، وأتبعها بدراسات أخرى حول اللهجة الشلحية من الناحيتين الإثنوغرافية والمعجمية..كما ألّف ألبير سوسان دراسة مبكرة حول اللهجة العربية لهوارة بواد سوس ونشرها سنة 1894…
وقد أسفرت الملاحظات التي التقطها هذان العالمان بصدد طائفة أولاد سيدي حماد وموسى من البهلوانيين عن جملة من المعلومات يمكن أن نجملها فيا يلي:
أن هذه المجموعة كانت تتألف من 60 إلى 80 شخصا، وتقدم عروضها خاصة في الأقاليم الجنوبية للمغرب حيث كانوا يمزجون فيها بين الغناء والرقص والألعاب البهلوانية، وهي تدين بالولاء لشيخها سيدي حماد وموسى من أهل القرن السادس عشر.
أما عند انتقالهم إلى أوروبا أو أمريكا الشمالية فقد تقلّص عدد أعضاء الفرقة لينحصر ما بين 12 و15 فردا وذلك لتيسير القيام بجولات من تنظيم وكالات الأسفار التي تتعاقد لصالحهم مع مسارح المنوعات والسيركات العالمية. وبهذه الطريقة وسّع أولاد سيدي حماد وموسى من دائرة إشعاعهم وصارت لهم شهرتهم كبُناة للأهرام البشرية التي ترتفع إلى ما فوق ستة أمتار وتشارك فيها كوكبة من البهلوانيين المحنّكين الذين يلبسون أزياء تقليدية ويمتازون بحسّ الانضباط والسلوك السلمي.
وقد اشتهرت من بين هذه الفرق مجموعة الحاج محمد التي ستقدم عروضها في هامبورغ سنة 1902، وبعد الحرب العالمية الأولى صار عدد هذه الفرق المغربية العاملة في أوروبا حوالي 25 مجموعة أهمها فرقة ابن عبد الله. وخلال حكم الرايخ الثالث سوف يتقلّص هذا العدد إلى الحد الأدنى بتأثير من السياسة التمييزية المتبعة تجاه الفنانين وأعضاء السيرك..وهو الأمر الذي سيحمل العديد من أولاد سيدي حماد وموسى، من ذوي الأصول المغربية والديانة الإسلامية، على محاولة استبدال جنسيتهم والسعي إلى الحصول على جوازات سفر أوروبية إسبانية وفرنسية ومكسيكية لمباشرة العمل بدون مضايقات من النازيين.
وخلال الخمسينات والستينات سوف يتقاعد جيل البهلوانيين الرواد الذين سيتحولون إلى مدرّبين أو منظّمين يسعون إلى استقدام مَن يعوّضهم من شباب البهلوانيين المغاربة ليتمكنوا من مواصلة أنشطتهم في السيركات الألمانية والسويسرية..
وفي أواخر السبعينات من القرن الماضي، ومع عودة الحياة إلى فن السيرك في أوروبا، ستشتهر في الميدان عائلات مغربية مثل عائلة اليازيد التي سيعمل أولادها وبناتها في مختلف السيركات الأوروبية بكل التفوق المشهود لهم به عالميا.
ويشير الباحثون في هذا الشأن إلى شخصية علي الحسني كنموذج للبهلواني الناجح عالميا الذي غادر قريته الجنوبية في الثلاثينات وهو ابن السابعة هربا من عصا الفقيه ويحلّ بمدينة مراكش حيث سيتعلم مبادئ هذا الفن الذي سيصير كل شيء في حياته. وبعد أن يتمكن من تقنياته وألاعيبه بحيث سينجح في حمل عشرة أشخاص على كتفيه سيلتحق خلال الأربعينات بفرقة “أطلس صحاري” التي سيخوض معها في جولة تقوده إلى إسبانيا ثم إلى ألمانيا سنة 1948، وفي سنة 1951 سينخرط ضمن السيرك الإنجليزي الشهير المسمّى “بيلي سمارت” حيث سيلتقي بزوجته تامارا ابنة مهرج السيرك العالمي كوكو. وفي سنة 1955 سينشئ علي الحسني فرقته الخاصة التي جعلها تحمل اسمه ويقدم بواسطتها عروضا تقوده جولاتها إلى ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا والدانمارك والولايات المتحدة..وفي سنة 1980 سيؤسس في العاصمة البريطانية سيركه الخاص “سيركوس الحسني” الذي ما يزال يديره إلى اليوم (1997) محققا النجاح تلو النجاح..
وبالنسبة لعلي الحسني فليس هناك من أسرار للتمكّن من فن أولاد سيدي حماد وموسى اللّهم الامتناع عن التدخين وشرب الخمر وتناول المخدرات والمواظبة على الرياضة والتمارين البدنية..
ولابد من القول بأن هذا الفن قد تطور كثيرا خلال القرن العشرين، فأعضاؤه لم يعودوا يقتصرون في عروضهم على بناء الشكل الهرمي الذي ظل يذكّرهم بقبة ضريح شيخهم في تازروالت بل جاوزوا ذلك ليمارسوا أنواعا أخرى جديدة من الرياضات والبهلوانيات الحديثة المشتهرة عالميا..
كما أنهم انتقلوا من مركز نشأتهم بمراكش التي شكلت نقطة انطلاقهم إلى مدينة طنجة التي أتاحت لهم لقاء جمهور واسع ومتنوع وفتحت أمامهم آفاق ارتياد العالم الذي صار هو مبرر وجودهم. وقد أصبحت نقطة لقائهم في هذه المدينة هي مقهى طنجيس بالسوق الداخلي حيث يعقدون الصفقات ويوقّعون عقود العمل بالخارج التي هي هدفهم الأول.
كما أنهم أصبحوا يستفيدون من شاطئ طنجة العريض للقيام بتمريناتهم المعقدة وبناء أهراماتهم البشرية التي هي سبيلهم إلى إثارة انتباه الوكلاء والمتعاقدين..وهذا الانتقال إلى شمال المغرب (طنجة، العرائش، أصيلة..) يدل على رغبتهم القوية في الانفتاح على العالم ومغادرة التقوقع على الذات والتخفيف من ثقل الجانب الروحي في ممارستهم.
وكان بهلوانيو سيدي حماد وموسى يحرصون قبل الشروع في القفز وبناء الأهرامات البشرية على رفع الدعوات لأجل أن يتولى شيخهم حمايتهم ومدّهم ببركته، وهو طقس كانوا يداومون عليه في عروضهم المحلية في الأسواق والساحات العمومية، ولكنهم وقد صاروا يعملون في السيركات الأوروبية لم يعودوا ينصرفون بفكرهم إلى الشيخ سيدي حماد وموسى إلا لماما..
كما يشار إلى أن الأجيال الأولى من هؤلاء البهلوانيين كانت تتوارث هذا الفن أبدا عن جد، حيث يقوم الكبار بتعليم الصغار أسرار العمل منذ نعومة أظفارهم..ولذلك كانت الفرق تحمل أسماء تلك العائلات: عائلة عمر بن محمد وعائلة اليزيد..إلخ أما اليوم وبعد تحلّلت الروابط العائلية لصالح علاقات أخرى فقد صارت الفرق تخلع على نفسها اسم المدينة التي ينتسب إليها أفرادها: “أطفال شاطئ طنجة”، “فرقة الدار البيضاء”..
ومن هنا لم تعد اليوم مجموعات أولاد سيدي حماد وموسى تعمل كما في السابق تلبية لنداء روحي وصوفي عميق، بل تحول هدف أعضائها إلى الحصول على تأشيرة إلى الخارج ووسيلة إلى كسب عقود عمل مجزية لينضافوا إلى أكثر من 300 بهلواني مغربي يعملون في السيركات العالمية. 

حسن بحراوي
الاتحاد الاشتراكي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق