ذكرى مقاوم في (وليمة) عزاء بقلم : حسن الباعقيلي

ذكرتني هذه الأجواء التي نعيشها هذه الأيام بحادثة كادت تذهب بها الأيام. فقد كان من أفضال الله علي أن حضرت في بلدة أيتعبلا قرب لخصاص، عزاء الشاب الطيب الخلوق المرحوم ياسين اباريكن غفر الله له وأسكنه فسيح جناته. هو وكل الذين قضوا في زلزال الحوز وكل الأموات أجمعين. وجاء في الحديث مع المعزين الذين كنت جالسا معهم ذكرُ المقاومين البعمرانيينالأشاوس الذين ساموا المستعمر الاسباني الخسف والويلات.وتشعب الحديث بين الجلساء وامتد إلى البطولات والتضحيات والانتصارات إلى أن انفرد به ابنُ أحد المقاومين وانطلق يقصعلينا قصة أبيه البعمراني المقاوم.

كثرت فصول قصة الأب المقاوم وكثرت معها مواقفه الباسلة وشهامته الرجولية وشتى ألوان الحيل ومكايد الحرب التي كان هو ورفقاؤه يحوكونها للغاصبين الإسبان حتى كان فصلها الاخير. إذ جاء الأبُ المقاوم واحدا من أبنائه يستخفه الفرح المباغت،ويستنهض البريق اللامع الموعود همته نشيطة وثابة. وراح يحث أباه المقاوم ويرجوه أن يبحث في القديم من الأوراق، والبالي من الوثائق ما يثبت انتسابه إلى المقاومة ليقايضها مالا كثيرا ونفعاعظيما. فما أحلى موسم الجني إذا جاء على غير موعد ولا انتظار وما أشهى ثماره إذا نضجت بلا وصب.

أخذ الوالد المقاوم يراوغ ابنه المسحور ويداوره ويماطله لعل همته تفتر ولعل الأيام تنسيه البريق الكاذب وتحيل جذوة عزيمته المتوهجة رمادا تبعثره الرياح. غير أن الابن كان قد عزم وأصر.وقرر ودبر.

ولما رأى منه الوالد ذلك ناداه وأسر له ما كان يضمر في قلبه قائلا: “أعرني سماعك بني. قد كان ما كان مما تعرفه من أمر العدو الذي دخل وطننا واحتل أرضنا واستباحها ونازعنا حقنا فيها. وكان ما كان مما تعرفه إذ نودي علينا أن هبوا للدفاع عن أرضكم وعرضكم وكرامتكم. لبينا الدعوة وخرجنا نناوش العدو المستعمر ونقاتله ونطارده. وكنا نصيب منه ويصيب منا، ويقتل منا ونقتل منه حتى طردناه شر طردة

ولم يكن يخامرني شك وانا أسترجع هذه الواقعة أمس أن الأب حين بلغ هذا الموضع من الكلام توقف لحظة. وربما سعل سعلتين أو ثلاث، وتنهد تنهيدة أو اثنتين. وتراءت أمامه قمم الجبال التي كانوا يرابطون فيها ويحتمون ويهاجمون. وملأت خياشيم أنفه رائحة البرود المباركة. وطربت أذناه بهمسات الرفقاء يحذرون ويشيرون ويستغيثون ويصيحون فرحين مسرورين. ولما انتهى الأب من كل هذا زادت نبرات صوته صفاء، وعزيمة روحه درجة،وجرت في عروقه دم المقاوم الباسل ساخنة، فجر ابنه بعيدا ينتزعه من غفلته ويهمس في أذنيه: فعلنا كل ذلك يا ولدي ولم يكنفي قلبنا ذرة شك أننا كنا نجاهد.. كنا نجاهد يا ولدي. كان مقاومتنا جهادا. جهاد. اسمعتني؟”

وسرحت بي الخواطر في بحر هذه الذكرى بين صورة هذا الأب الذي أخلص النية لربه والعزم لوطنه ولم يكن يرجو من عمله إلا أجر المجاهد خالصا وشتى صور التضامن والتكافل والعزاء التي أبداها المغاربة مجتمعين، مقيمين كانوا أو مهاجرين، نجدة لإخوانهم المنكوبين من أثر زلزال الحوز. وهي لعمري صور تُجلي معدن المغاربة النفيس بهيا ناصعا صقيلا، لن ينال منه ما نشاز نسمعه هنا وهناك بين الحين والحين.  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق