قصة فشل معلن . بقلم توفيق بوعشرين

جطو

كتب قضاة المجلس الأعلى للحسابات خلاصة سوداء من 75 صفحة عن حالة المؤسسات والمقاولات العمومية. عندما تقرأ هذه الخلاصة يتبادر إلى ذهنك سؤال محير وهو: من المسؤول عن هذه المجزرة التي ترتكب كل يوم في حق المال العام؟ كيف تنام الدولة وتستيقظ وفيها 200 مؤسسة ومقاولة عمومية مريضة تنزف كل يوم، ولا أحد يتحرك لوقف النزيف وحماية المال العام، وتصحيح مسار نموذج اقتصادي وتدبيري كارثي؟
لا يعرف المغربي هل نعيش في بلد رأسمالي، أم شيوعي، أم اشتراكي، أم بلد باقتصاد مختلط. يمكنك أن تعثر على كل هذه النماذج في يوم واحد، وفي بلد يعرف نفسه على أنه بلد المبادرة الحرة واقتصاد السوق، لكن الدولة تضع يدها في النقل، والعقار، والسياحة، والتجارة والخدمات، والإعلام، والأبناك، واللوجستيك، والتأمينات، وصناديق التقاعد، والتعليم، والفلاحة، والاستثمار، وتربية الخيول، وألعاب الرهان، واستخراج المعادن، والتسويق، والصناعة التقليدية وغير التقليدية.
ومع أن سيرة الدولة عندنا لا تؤهلها حتى لإدارة مقاولة صغيرة لأنها أثبتت، قبل مسلسل الخوصصة وبعده، أنها فلاح فاشل، وصناعي فاشل، وتاجر فاشل، وإداري فاشل، ومصدر فاشل، ومستورد فاشل، وبنكي فاشل، فإنها مع ذلك تدير قطاعات كبيرة ورقم معاملات ضخما… البيروقراطية تقتل روح المقاولة، وغياب المحاسبة يقضي على النجاعة، وضعف تكوين الإطار البشري يهدر الطاقة، وتضخم كتلة الأجور في المؤسسات والمقاولات العمومية مثل الحديد في الرجل، يمنعها من الحركة، زد على هذا أن غياب الرؤية الاقتصادية يجعل مؤسسات الدولة عمياء تخبط خبط عشواء، وهذا ما انتهى إليه تقرير المجلس الأعلى للحسابات، الذي تحول من مراقبة الصرف إلى فحص نجاعة الاختيارات الاقتصادية، فأوصى بخروج الدولة من القطاعات التجارية التنافسية، وخوصصة بعض المؤسسات والمقاولات العمومية المفلسة، وإدماج بعضها في بعض، وتحويل بعضها إلى شركات مساهمة بدفاتر تحملات واضحة، وإعادة النظر في الإطار القانوني الذي يوطر عمل هذه المؤسسات، أو بالأحرى يضفي مشروعية على اختلالاتها وجرائمها.
حزب التقنوقراط في الإدارة، المستفيد الأول من الوجود الثقيل للدولة في الاقتصاد، لن يرحب بدخول قضاة المجلس الأعلى للحسابات إلى عش الدبابير هذا، وسيبرز أظافره للرد على هذا التقرير في المكان والزمان اللذين يختارهما، لأن هذا التقرير يكشف المستور، ويمس مصالح كبرى وامتيازات لا تخطر على بال، وقد كشفت وزارة المالية، في ردودها على استفسارات المجلس، ملامح خطة الهجوم المضاد، ومنها أن هذه المقاولات تضطلع بدور استراتيجي في اقتصاد البلد، وأن القطاعات غير الربحية التي تديرها لن يجرؤ الخواص عليها، وأن صندوق الإيداع والتدبير، الذي أوصى المجلس الأعلى بخروجه من القطاعات التنافسية في العقار والسياحة وغيرها، مسؤول عن تثمين أموال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وهذه، لعمري، أكبر كذبة تسوقها وزارة المالية وإدارة صندوق الإيداع والتدبير، الذي يرمي إلى الضمان الاجتماعي الفتات، ويحتكر توظيف أمواله بنسبة فائدة ضعيفة تقل كثيرا عما هو معمول به في السوق.
هناك “سوء فهم كبير” في المغرب متعمد ومقصود، وهو قائم على الخلط بين الخدمة العمومية وأدوات تحقيق هذه الخدمة. النقل والتعليم والصحة، مثلا، خدمات عمومية يجب على الدولة أن تضمنها لكل المواطنين، فقراء وأغنياء ومتوسطي الحال، لكن أدوات الخدمة العمومية ليس ضروريا أن تكون بيد الدولة والإدارة وبيروقراطيتها، وأن يصبح تقنوقراط الإدارة رجال أعمال كبارا بدون إشعار أحد، يتصرفون في 129 مليار درهم سنويا ولا يجنون أرباحا، ولا يسهمون في أعباء الميزانية، ويوزعون أرباح مؤسساتهم على كبار الموظفين، ويوزعون الصفقات وعقود الخدمة على شبكات زبونية وشركات مقربة منهم. هل تذكرون كيف فوت مدير المطارات، عبد الحنين بنعلو، صفقات إلى شركات هو مساهم فيها؟ وكيف غير دفتر التحملات بعدما رست الصفقة على الشركات المقربة منه؟ والنتيجة أنه الآن في السجن، لكن ملايين المغاربة يعانون كل يوم في مطاراته الرديئة، وأولها مطار محمد الخامس الذي يعطي صورة سيئة عن البلد للزوار، والذي يشك في هذا الحكم ما عليه إلا أن يزور مراحيض أول وأكبر مطار في المغرب وينظر في أحوالها.
الأغلبية الساحقة للمطارات المتقدمة والمتطورة، والتي تقدم خدمات لائقة بالمسافرين، لا تديرها الدولة، حتى في أوروبا، التي تتوفر على إدارات فعالة وحديثة، مثل هذه المرافق تعطى لشركات خاصة، وتوضع لها دفاتر تحملات دقيقة، وتخضع لرقابة صارمة، وفي النهاية يربح الجميع.. الدولة توفر خدمات عمومية لمواطنيها، والخزينة تربح مداخيل ضريبية محترمة، والقطاع الخاص يستثمر ويطور تجربته وأطره ويستفيد ويفيد. اليوم كوب القهوة في مطار الدار البيضاء أو الرباط أغلى من نظيره في مطار هيثرو بلندن أو JFK في نيويورك أو شارل دوغول في باريس أو مطار إسطنبول بتركيا.
الدولة المغربية تحتاج، اليوم قبل الغد، إلى إصلاح عميق وجذري حتى تنقذ نفسها من الفساد، ومن تآكل شرعية الإنجاز في عالم معقد ومجتمع لم يعد يخاف، ومن بين مفردات هذا الإصلاح التخلي عن الخوف من ممثلي الشعب، والتصالح مع السياسة، فالمطلوب من الدولة أن تركز على المهام السيادية والوظائف الاستراتيجية التي لا يمكن لأحد أن يضطلع بها وهي: الأمن والقضاء والدبلوماسية والجيش وجمع الضرائب وتقنين(la régulation) حركة المال والأعمال والمصالح، حتى تضمن العدالة الاجتماعية والتنافسية وحماية دولة القانون.. الباقي كله ثانوي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق