مقاه ليست كالمقاهي !

مقهى

داخل المقهى هناك من يفك شبكات «المسهمة» و هناك من يخطط لشبكات النصب و الاحتيال. هناك من يطالع الجرائد المحلية حيث أخبار السياسيين و المثقفين، و هناك من يطالع الجرائد الدولية حيث أخبار خيول التيرسي و مواعيد سباقات الكلاب.

و بسبب كثرة الإقبال على المقاهي أصبح كل من يصعد إلى البرلمان أو يلمع نجمه في الرياضة يفتح واحدة. و يبدو أن المقهى هو المشروع الناجح الوحيد الذي يصلح لهذا المغرب، فبمجرد ما يفتح أبوابه حتى يأخذ كل واحد مكانه. الفتيات يفضلن البالكون حيث يمكنهن من وضع هواتفهن الصغيرة و الملونة، جنب علب السجائر و التدخين بشراهة، فأغلبهن يأتين مقطوعات من الدخان و يشرعن في استدراك ما ضاع منهن من النيكوتين.

الموظفون ذوو ربطات العنق الملونة يفضلون الجلوس داخل المقهى حيث يمكنهم من الاختفاء عن أنظار رؤسائهم المباشرين. و هناك نوع من الرجال يفضلون الجلوس على رصيف المقهى حيث يمكنهم من «تخضير» عيونهم بمنظر الفتيات و الطالبات اللواتي يخرجن لابسات لباس السهرة منذ الساعات الأولى للصباح.

شخصيا ما يثير اهتمامي في رواد المقاهي هو تخيل قصص حياتهم. فأنا مثل كثيرين من المغاربة، رائد من رواد المقاهي، و كلما وقع نظري على شخص يحرك فنجان قهوتــه تشتغل مخيلتي من تلقــاء نفسها و تبدأ في تأليف القصص حول حياته، من أين أتى، ما الذي يشغل باله الآن، ما هي مهنته، مشاكله…

قصص كثيرة تخيلتها لأناس لا أعرفهم، جمعتني بهم طاولة في مقهى ما من مقاهي هذا الوطن، إلى درجة أنني أصبحت أعرف أنواع الزبائن عن ظهر قلب. هناك الذين يأتون إلى المقهى مباشرة بعد فتح عيونهم في ساعات الصباح الأولى، هؤلاء غالبا يعانون من مشاكل في النوم، و ينتظرون بفارغ الصبر أن يطلع النهار لكي يغادروا الفراش. و بسبب إدمانهم على المقاهي صاروا يميزون بين تلك التي تمنح روادها الجرائد من تلك التي لا تمنحهم حتى الماء مع القهوة هناك الفتيات اللواتي يأتين للإفطار في المقهى و على وجوههن آثار سهرة صاخبة و متعبة، يطلبن عصير «بانشي» لاسترجاع أنفاسهن، ثم يطلبن بعد ذلك قهوة و يشعلن سيجارتهن الأولى.

أحاول تخيل حكاية كــل واحــدة منهن، بعضهن جميلات و تقول تقاسيم وجوههن أنهن بنات ناس، لكن الزمن المغربي القاسي لا يرحم. مع الوقت تحولن إلى بائعات للمتعة في أسرة متنقلة، اختصرن وجودهن في حقيبة يد صغيرة يجمعن داخلها أغراضهن القليلة … مشط وأدوات التجميل الرخيصة والبطاقة الوطنية. هناك العريقات في المهنة، اللواتي يحملن على وجوههن آثار ندوب قديمة تخلد لذكرى سهرات لم تنته على ما يرام. هؤلاء تراهن كل صباح مع رجل جديد، و مع مرور الوقت تلاحظ أنهن يأتين رفقة رجل واحد، فأتخيل بداية القصة، لقد وقع الرجل في الحب، عفوا في الفخ ثم يختفي الإثنان إلى الأبد، و أتصــور أنهما تزوجــا و أنجبا الأولاد و أصبحا يكونان أسرة سعيدة. بعض الرجال يتعودون على تربية – الكبدة- على هؤلاء البنات فينتهون معهن غالبا بتربية الأطفال. هناك أيضا التلميذات اللواتي يهربن من حصص الإنشاء المملة ويتسللن مع أصدقائهن إلى المقهى لتدخين سيجاراتهن الأولى في الحياة، بعضهن يتصورن أنهن ينتصرن على العالم من خلال هذه السيجارة وبعضهن يكتشفن مذاقها أول مرة.

ثم هناك المثقفون، هذه الفصيلة من الزبائن التي يكرهها أرباب المقاهي حتى الموت، فهم قادرون على السكن في المقهى طوال المساء و التناقش حول فنجان قهوة بلا تعب، و لذلك أفلست كل مقاهي المثقفين  التي كانت معروفة في المغرب، و لولا اجتياح العاهرات اللواتي عوض المثقفين لهذه المقاهي لأقفلت هذه الأخيرة أبوابها منذ زمن طويل.

–         هناك مقاه لا تنسى و أخرى لا تطاق.

–         المقهى حيث كنا نعد لامتحانات الجامعية التي نجحنا فيها بجدارة و رسبنا في الحياة بنقط مخجلة !

–         المقهى حيث اكتشفنا لأول مرة نشوة قراءة الجريدة و نشوة الانتصار عندما ننجز شبكة الكلمات المتقاطعة بدون أخطاء !

–         المقهى حيث انتظرنا معه موعدا فارغا ضيعنا معه فرصة عمل … !

المقهى الذي نجلس فيه كل يوم، نراقب العالم يسير من وراء الزجاج، يتحرك، يتشاجر، يطارد، يعاكس، يسرق، يصارع الحياة اليومية بقفازات ملاكم من وزن الذبابة، في حلبة بحجم الوطن !

 

بقلم : عبد الرحيم بوت 

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. موضوع اجتماعي.يهم شريحة كبيرة من المجتمع .اطلعنا من خلاله الكاتب على انواع المقاهي و ما يجري بداخلها فله منا جزيل الشكر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق